سيرة منسية من ذاكرة الفن المصري

Sunday, August 24, 2008

رواية غير المضحوك عليهم

عن "دار هلا للنشر والتوزيع" بالقاهرة؛ صدرت رواية "غير المضحوك عليهم". وهي الرواية الثانية لكاتبها ياسر منجي؛ الروائي والفنان التشكيلي والناقد، الذي يعمل مدرساً بقسم الجرافيك بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة، والذي سبق وأن أصدر روايته الأولى "مولد سيدي بسيسة".
والرواية تستلهم اشتباكات العلاقة بين يهود مصر وغيرهم من الطبقات والشرائح والقوى الاجتماعية، خلال فترة الخمسينيات من القرن المنصرم؛ حيث تطالعنا ذكريات أفراد عائلتي "حوطر" المسلمة و"عقيبا" اليهودية بمنطقة "سوق اللبن" بمدينة "المحلة الكبرى"، والتي يسوقها الكاتب بأسلوب الراوي العليم.
خبر إدراج الرواية بالمكتبة الوطنية الاسترالية:
خبر إدراج الرواية بمكتبة جامعة ميتشجان:

Thursday, June 12, 2008

تداخل الأجناس الأدبية في السياق النقدي لدى نعيم عطية


د. ياسر منجي
ورقة بحثية طُرِحَت بندوة تكريم الناقد الراحل "نعيم عطية"، التي أقيمت بالمجلس الأعلى للثقافة
في 29 مارس 2008

مقدمة:
المتتبع لحركة النقد الأدبي الحديثة لابد وأن يلمس بجلاء اتجاهاً واضحاً، للجهود النظرية والأكاديمية، نحو تناول وتحليل تقنيات الصياغة، التي يتبناها المبدعون في تشكيل نصوصهم، لاسيما تلك التقنيات التي تتلمس طرقاً غير مألوفة، من شأنها أن تصب في مصلحة كسر جمود القوالب الاعتيادية والصياغات التقليدية. وفي سياق هذا التوجه الحثيث يبدو أن تقنية من بين تلك التقنيات الصياغية قد بدأت في الاستئثار بالشطر الأعظم من الجهود المشار إليها، على نحو تكرَّسَت معه طروحات ضخمة بأكملها للكشف عنها، و محاولة وضع قواعد جديدة لها، بشكل لا يخلو من اجتهاد ومغامرة في غالب الأحيان – خاصة عندما يتعلق الأمر بالإبداعات الأدبية الخارجة من رحم المستجدات الرقمية و إفرازات الشبكة العنكبوتية(1) – وهي التقنية التي اتُفق على اعتماد مصطلح (تداخل الأجناس)(2) للتعبير عن تجلياتها في تشكيل هذا النوع من النصوص الأدبية المشار إليها قبلاً، وهي تقنية تعتمد ببساطة على استثمار المبدع لكل إمكاناته الصياغية، ليقدم نصه للمتلقي بأسلوب يكفل مفاجأته أحياناً، وصدمه أحياناً أخرى، بألوان من النصوص التي تم توليفها من أنواع وأجناس أدبية شتى؛ كأن يقوم الروائي بتضمين قصائد شعرية مطولة في بنائه السردي(3) أو أن يورد الشاعر قوالب قصصية مرسلة بداخل قصائده(4)، أو استثمار تقنية "البوليفونية" (تعدد الأصوات)؛ وذلك عن طريق توظيف تقنيات السرد الروائي والحوار المسرحي...الخ ضمن قالبه الشعري.
ويُعتبر هذا المدخل ضرورة لازمة للإلمام بمغزى البحث الحالي، والذي يتناول خصوصية الصياغة في السياق النقدي لدى الناقد الكبير الدكتور "نعيم عطية" (1927 - 2013)، الذي تنوعت جهوده على نحو لافت للانتباه، لتغطي مجالات النقد الأدبي والتشكيلي، إضافة إلى مساهماته الخاصة في حقل الأدبيات القانونية من منطلق تخصصه – حيث حصل على ليسانس القانون عام 1948، فدكتوراة القانون عام 1964، متقلباً في المناصب القضائية حتى تقلد منصب نائب رئيس مجلس الدولة عام 1984 – فضلاً عن اجتهاداته في صياغة البرامج الإذاعية بالبرنامج الثاني خلال عقدي الخمسينيات والستينيات، إلى جانب جهوده الترجمية – حيث أتقن اللغات الإنجليزية، والفرنسية، واليونانية – وهو ما تشهد عليه ترجمته الرائعة لقصائد الشاعر اليوناني "كفافيس"(5)، ومواكبة كل ذلك بسلاسل مقالاته الضخمة، التي تناول من خلالها شتى القضايا الثقافية، وهي مقالات تستحق من وجهة نظر الباحث اهتماماً خاصا يتفرغ خلاله عدد من الباحثين لجمعها وتصنيفها بيبلوجرافيا، وتخصيص دراسات موازية لها، لما تمثله من ثروة بحثية جديرة برسم صورة مكثفة لحقبة كاملة من الثقافة المصرية في شتى المجالات.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الباحث ليس بصدد اعتساف رؤية مغالية في تناول المسألة الصياغية الخاصة بنصوص "نعيم عطية" في مجال الفن التشكيلي، بحيث يقحم عليها مقولات ونظريات نقدية مفارقة لظروف إفرازها في الوقت الذي أبدعها فيه كاتبها – خاصة بالنظر إلى حداثة هذه المقولات وتأخرها زمنياً عن كتابات "نعيم عطية" – بل يهدف الباحث إلى محاولة إسقاط بصيص من ضوء على فرادة نصوص "نعيم عطية" ذات الصلة بالشأن التشكيلي، من خلال لفت الانتباه إلى خصوصيتها من حيث الصياغة وتقنيات السبك الأدبي، التي اعتمدها مبدعها لتأتي على النحو الذي ميز الطرح النقدي التشكيلي لدى "نعيم عطية"، ودمَغَه بعلامة فارقة غير منكورة، إلى الحد الذي كرسه كطرح ذي منحى خاص بين طروحات القامات السامقة في مجال النقد التشكيلي.
كما يهدف البحث الحالي إلى إبراز دور المؤثرات الكبرى التي ساهمت في بلورة الأسلوب الصياغي لدى "نعيم عطية"، على هذا النحو الذي رأى فيه الباحث نوعاً من أنواع (تداخل الأجناس) – وفقاً لمناخ زمن كتابتها، بالنظر لكونها كتابات سابقة زمنياً لجهود مبدعي هذا المنحى من الأدب – وكذلك تبيان أثر الثقافة الموسوعية لدى "نعيم عطية" في إكساب كتاباته النقدية التشكيلية طابعها المميز، سواء على مستوى الشكل والصياغة – (تداخل الأجناس) كما يراها الباحث – أو على مستوى المضمون الذي تميز بمقاربات نقدية تتميز بقدر كبير من الدماثة وحيادية التناول.

موسوعية الثقافة وزمن القانونيين المفوهين:
من الثابت أن المشتغلين بالشأن القانوني، على اختلاف مواقعهم، يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بفنون اللغة وأساليب الكتابة، إلى الحد الذي كفل اشتهار أمثلة عديدة من نماذج كتاباتهم، التي كانت مخصصة بالأساس لأغراض الصياغة القانونية، وخروجها إلى حيز الروائع الأدبية التي تُتداول بين متذوقي الأدب وعشاق فنونه، بل وإلى حد التقاط أفراد المجتمع لعديد من التعبيرات والصياغات الواردة ضمن نصوص تلك الأدبيات القانونية، ليتم ترديدها واعتمادها بمثابة أقوال سيارة، ولعل أبرز مثال في هذا الصدد القول المشهور الذي يستشهد به البعض أحياناً، والقائل: (تلك تهمة لا أنفيها وشرف لا أدعيه)، والتي ربما لا يعرف البعض أنها من إبداع قريحة الزعيم الوطني "سعد زغلول" – وهو القانوني العتيد – والتي وردت ضمن خطبة له، صاغها لتكون بمثابة عريضة دفاع، حين وجه له المعتمد البريطاني تهمة إثارة الرأي العام وتحريض الناس على مناوأة الاحتلال البريطاني.
ولم تكن تلك الصلة الوثيقة بين القانون والأدب وليدة عهد قريب، بل إنها تضرب بعيداً في تاريخ كل من الأدب والقانون معاً، إلى حد المزج بينهما أحياناً؛ وذلك لعلة منطقية، تتمثل في اعتماد جانب كبير من الخطابات القانونية دفاعية الطابع – دفاعات المحامين خاصة – على سلاح التأثير النفسي، بما يتطلبه من وجوب الإلمام بفنون البلاغة وتقنيات التأثير في عموم المستمعين، هذا فضلاً عن حاجة المشرعين وواضعي القوانين إلى التمتع بالحد الأقصى من القدرة البلاغية، والإلمام بفنون اللغة ومعاني مفرداتها القاموسية و الاصطلاحية، لضمان صياغة القوانين على نحو صارم من الدقة والوضوح، وكفالة عدم اللبس في المفردات أو تأويل العبارات القانونية من قبل المتلاعبين بالألفاظ، كيما يتمتع القانون بسيادته على النحو الأوفى. ويحفل تاريخ العالم بعشرات من الأمثلة التي تؤكد تلك العلاقة الوثيقة؛ فهناك "صولون" الذي انتُخِب حاكماً لأثينا عام 592 ق.م والذي كان شاعراً وخطيباً بليغاً، وفي ذات الوقت أبا للتشريع اليوناني، إلى الحد الذي نقشت معه شرائعه على لوحات مثلثة تدور على محور، وتم وضعها في الرواق الملكي حيث كان يجلس الحاكم والملك للقضاء ويقسمون جميعاً بأن يتقيدوا بها.
ولم يكن التاريخ المصري في مجالي الأدب والقانون بعيداً عن تأثير هذه الصلة، بل لعله أن يكون من أغزر التواريخ تمتعاً بالأمثلة الساطعة في هذا السياق، ولكي لا نخرج عن موضوع البحث الأساسي يكفي أن أعرض لمثالين حديثين نوعاً ما، اشتهرا بوصفهما علمين من أعلام البلاغة الأدبية والفقه القانوني معاً في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وكان لكل منهما تأثير بالغ على أجيال القانونيين التالية لهما زمنياً، ومنها جيل "نعيم عطية"؛ ألا وهما "أحمد فتحي زغلول" (1863 – 1914)(6) و "إبراهيم الهلباوي" (1858 – 1940)(7).
وربما يكون من المفيد هنا أن نشير إلى المشابهة الشكلية لممارسة النقد التطبيقي بممارسة العمل القضائي، بما يشمله ذلك في كل منهما من وجوب إطلاق أحكام معيارية، صادرة عن قناعة كل من الناقد والقاضي بما اطمأنت إليه نفس كل منهما من مواقف نهائية تجاه كل من العمل الفني والقضية محل النظر، في ضوء محددات وأسس قياسية، تنبع لدى الناقد من الإطار العام لمذهبه النقدي ولدى القاضي من نصوص التشريع الذي يحيل إليه قضيته المنظورة. بل إن المشابهة بين العمليتين النقدية والقضائية قد تتعدى إلى ما هو أكثر عمقاً من هذا المستوى؛ وذلك حين ينحو كل من القاضي والناقد نحو التحرر من صرامة القوالب الشكلية الجامدة لكل من نظريات النقد و نصوص القانون الحرفية، ويعمدان إلى إجراء تكييفات إبداعية لأحكامهما، وفقاص لخصوصية الحالة المنظورة من قبلهما حين تتمتع بفرادة أو ظروف خاصة، تحتم التعامل معها وفقاً لما يسمى بـ(روح القانون) لدى القضاة، وهو ما يتوفر لدى الناقد حين يلفي نفسه بإزاء عمل فني ذي طرح محرض على التناول المرن خارج إطار المقولات والنظريات المعدة سلفاً، مما ينتج في النهاية نصاً نقديا إبداعياً بدوره يكرس لمقولة (الإبداع النقدي الموازي للإبداع البصري)، ولكن لا يخفى أن هذا المستوى من التحرر الإبداعي في ممارسة العمليتين القضائية والنقدية يتطلب بالدرجة الأولى مرونة ذهنية، وموسوعية قد لا تتاح لكثيرين من المعنيين بالمجالين؛ وهو ما يتمتع به "نعيم عطية"، ويظهر من خلال مثالين شهيرين في تاريخه على المستويين القضائي والنقدي: ففي كتابه (نساء في المحاكم)(8) نلمس بعداً إنسانياً بالغاً في تناوله الأدبي لنماذج من قضايا المرأة، التي سبق وأن أصدر فيها أحكاماً قضائية بنفسه، على نحو يوضح بجلاء جانبه الإنساني، الذي لم يفارقه حتى في أدق شؤون العمل القضائي وأكثرها مساساً بالمصائر الإنسانية، وكذلك حين يوضح بدماثة بالغة سر عزوفه عن تناول كثير من أعمال الفنانين التي لا تتفق وذوقه الشخصي بالنقد؛ حيث يقول: "قد يكون العيب في أنا!! فلماذا أزيد الفنان هماً وتعاسة؟ كفى أنه تكبد مشقة العمل إلى أن أخرجه في صورته النهائية"(9).
وبالمحصلة فإنه يمكن القول بكثير من الاطمئنان: إن رصانة العبارة وسلامة البناء اللغوي لدى "نعيم عطية" إنما تدين بشطر عظيم من ثرائها إلى تقلبه في مناصب العمل القضائي، وتوفره على دراسة أدبيات الفقه القانوني، وتمرسه بأعباء الصياغة التشريعية، الأمر الذي كفل لأسلوبه بعامةٍ التحلي بقسط وافر من سمات البيان البلاغي العربي، قبل أن تُغير عليها مستجدات الهُجنة والسقامة التي باتت تستشري في بنيان الخطاب النقدي، على نحو يهبط به أحياناً إلى وهدة الخطاب العامي المرسل على عواهنه.

النقد الأدبي والإفصاح عن المنهج:
في كثير من مصنفاته الأدبية التي تصب في خدمة نظرية النقد الأدبي وإلقاء الضوء على مذاهب الكتابة ومدارسها المختلفة، يفصح "نعيم عطية" بشكل أو بآخر عن صميم منهاجه النقدي ونظرته الشخصية للمسألة الإبداعية على اتساعها؛ الأمر الذي يمكن معه تتبع الإطار الفكري العام لمقارباته النقدية بعامة، ومن ثم الخلوص إلى إطاره النقدي التشكيلي الذي يدور البحث الحالي حول أحد تجلياته المتمثلة في الصياغة الأدبية لنصوصه النقدية، وفقاً لمقولة (تداخل الأجناس) المقترحة هنا؛ ففي كتابه (مسرح العبث: مفهومه – جذوره – أعلامه)(10) ترد فقرة غاية في الأهمية، تكشف من وجهة نظر الباحث عن مستويات عدة داخل الإطار النقدي العام ل"نعيم عطية"، على رأسها وعيه الشخصي بدرجة من الدرجات لانفتاح الأجناس الفنية على بعضها البعض؛ ألا وهي الفقرة التي يقرر فيها ما يلي:
"إن دراسة مسرح العبث أو مسرح اللامعقول توصلنا إلى التعرف بعدد من الكتاب الطليعيين، الذين ليسوا دعاة جديد لذات الجديد وحبا في الظهور، بل إن مسرح العبث يتضمن عدداً من المسلمات التليدة في تاريخ الأدب والفن، ويرتكن إلى كثير من التجارب الطليعية التي سبقته في عقول أخرى مجاورة مثل الشعر والتصوير والرواية"(11).
فالفقرة في ختامها تكشف عن وعيه وإدراكه لمسألة تآزر الأجناس الإبداعية، وتأثير كل منها على الآخر، إلى الحد الذي دفعه إلى تسويغ إبداعات كتاب مسرح اللامعقول بكونها ترتكن إلى أمثلة سابقة في المجالات الثلاثة التي ذكرها – الشعر والتصوير والرواية – ولنتأمل سوياً تعبيره (عقول أخرى) الذي وصف به المجالات الثلاثة السابقة؛ فهو تعبير يضمر فيما يضمر إيماناً مطلقاً بأسبقية العملية الذهنية في صياغة مقولات الإبداع أياً كانت وسائطها – شفاهية/الشعر، أو بصرية/التصوير، أو سردية مدونة/الرواية – والذي يكشف أيضاً من خلال فعل المؤازرة والارتكان، الذي يبرر به كل وسيط منهم تجارب الوسائط الأخرى عن إيمانه بانفتاح الوسائط و الأجناس الفنية على بعضها البعض، كروافد داعمة في خدمة العملية الإبداعية ككل.
ثم يسترسل في ذات الفقرة قائلاً: "ولا يعني الاهتمام بمسرح العبث التقليل من قيمة المدارس والتيارات الأخرى، سواء المعاصرة له أو السابقة له، فما زال مسرح العبث مسرحاً تجريبياً. ولا يمكن أن نحدد ما إذا كان سيتحول من مسرح يضايق الجمهور إلى مسرح يتهافت عليه الجمهور، ولا إذا ما كانت بعض مكتشفاته الطريفة سواء في اللغة أو الأداء أو رسم الشخصيات سيقدر لها أن تثري التراث المسرحي العام أم أنها ستبقى مكتشفات عابرة ما تلبث أن تُهجَر ويطويها النسيان"(12).
إنها ولا شك جملة لافتة، تمثل دليلاً ساطعاً على سماحة في الرؤية، كفلتها عقلية موسوعية مطلعة على مذاهب الفن والأدب على اتساعها، سواء منها التقليدي أو المستحدث، إلى الحد الذي كفل لها ألا تعلي من شأن أحدها على الآخر، وهو موقف يستأهل توقفاً خاصا بإزاءه؛ حيث تنبع أهميته من كونه موقفاً استثنائياً لناقد مبرز في الساحة العربية، التي تعاني دوماً من احتقان في العلاقات المتبادلة بين دعاة المذاهب النقدية المختلفة، إلى درجة قيام الكثرة الغالبة منهم بالانتقاص من شأن المذاهب التي يرونها مضادة للمذاهب التي ينافحون عنها، ومن ثم القيام بشجب وإقصاء أي عمل فني يكرس انحيازاً للمذهب المضاد، وهي ذاتها السماحة التي قيضت لصاحبها ألا يتعجل في إطلاق أحكام تنبؤية متعجلة – شأن كثير من النقاد – لاستباق نتائج التجارب الإبداعية المستحدثة، كما أنه توضح التفاته إلى أهمية عدم التعويل على مقياس الإقبال الجماهيري كمعيار نقدي لتقييم عوامل الأصالة والديمومة.
ثم تتكشف رؤيته الخاصة للعملية النقدية، وإيمانه المطلق بأهمية العمل الشاق، والاطلاع المستمر للناقد، كيما يطور من أدواته ويظل على صلة بمستجدات العصر بما يخدم منهاجه النقدي؛ وذلك حين يقول: "إن مسرحيات بيكيت ويونيسكو وجينيه وآداموف كثيراً ما تُرفَض بحجة أنها غير مفهومة. لكن سبب ذلك هو عدم الألفة مع الجديد والحاجة الملحة إلى قسط أكبر من المحبة ومحاولة الفهم لتقبل الاتجاهات الحديثة. وبدون هذه المحبة ومحاولة الفهم تظل الهوة سحيقة بين النقاد الرجعيين والأعمال الطليعية. على أن النقاد الرجعيين يجدون أنفسهم في النهاية قد خسروا المعركة بسبب تحجر أدواتهم وجمود معاييرهم ونكوصهم عن المتابعة وإصرارهم على الرفض بلا تَرَوٍ. لهذا فقد رأينا أن نكرس اهتماماً أكبر لتوضيح كيف يمكن أن نتذوق مسرحية من هذا القبيل"(13).
إن تلك السماحة التي اختار لها "نعيم عطية" تعبير (المحبة) إنما هي مدار مقارباته النقدية على الإطلاق، وهو حين ينعى على النقاد الذين أسماهم بـ(الرجعيين) تقاعسهم دون التطور والانفتاح على الجديد، إنما يكرس في ختام جملته لقضية مسؤولية الناقد، التي تملي عليه توجها للأخذ بيد عموم المتلقين نحو تلمُّس مواطن الإبداع، التي ربما تخفى عليهم بحكم إيغال الفنون الحديثة في مغامرات التطوير الشكلي، وهو بهذا يؤكد من جهة دور النقد بوصفه خطاباً وسيطاً كفيلاً بردم الهوة بين نزوات الإبداع وتحفظات التلقي، ومن جهة أخرى يفضح سلوك التعالي غير المبرر لكثير من ذوي الأصوات النقدية، الذين لا يرون في المتلقي إلا مستقبلاً سلبياً مطالباً طوال الوقت بالإذعان غير المبرر ولا المشروط لمقولاتهم الفوقية، دونما تفكير من قبل أصحاب تلك الأصوات النقدية لبذل جهد ولو ضئيل لردم
الهوة بين المبدع و متلقي إبداعه.

تداخل الأجناس وروافد الترجمة:
إذا كان التمرس بالشأن القانوني قد كفل لـ"نعيم عطية" حيازة القسط الأوفى من أفانين الكلم العربي الرصين، وإذا كانت ثقافته الموسوعية واشتغاله بأغراض النقد الأدبي قد أتاحا له رؤية بانورامية للمشهد الثقافي العالمي على اتساعه، فضلاً عن صياغتهما للإطار العام لمذهبه النقدي القائم أساساً على قيم التسامح الثقافي، وبذل الجهد لرأب الصدوع الناشئة عن تعصب الرؤية والنفور من المجهول والمخالف للمألوف، فلا جدال في أن إلمام "نعيم عطية" بلغات ثلاث هي الإنجليزية والفرنسية واليونانية إلماماً وثيقاً – إلى درجة ترجمة روائع الأدب وأسفار النظريات النقدية منها إلى العربية – قد ساهم في إكسابه ميزة قلما تتوافر لغير الذين كابدوا مشاق الترجمة، لا سيما حين يتعلق الأمر بمصنفات الإبداع ونصوص الأدب؛ فمن المعروف لدى المشتغلين بالشأن الترجمي أن تفاوت اللغات، في أساليب البلاغة واختلافها في أسس الصياغة الأدبية وقواعد السبك الكلامي، يجعل لكل منها جماليات خاصة على مستوى الصياغة لا يستشعرها عادةً سوى الناطقين بتلك اللغات والذين يحيون ثقافتها ويعون اختصاراتها وإيماءاتها وأساليب الترميز المعنوي لألفاظها، وربما يكون المثال الأشهر في هذا الصدد متمثلاً في ترجمة الشعر، فمن المعروف أن ترجمة القصائد من لغة لأخرى يتسبب – فضلا عن فقدان الإيقاع الموسيقي الأصلي المتولد من ألفاظ اللغة الأم – في إشكاليات شتى، قد يكون أخطرها ماثلاً في تغير وإهدار كثير من المقاصد الرمزية للألفاظ الأصلية، والتراكيب الناشئة عن علاقاتها في الجمل الأصلية، حين يتم استبدالها بألفاظ مرادفة في اللغة المترجم إليها.
وتقود تلك المفارقة عادة إلى وقوع الملمين بأكثر من لغة في موقف شديد الدقة والخصوصية؛ فهم من جهة قد تمتعوا بميزة إدراك جماليات النصوص الأصلية في لغاتها الأم، فضلاً عن تمتعهم بعملية صياغة النص المترجم وفق جماليات اللغة المترجم إليها، على نحو قد يصل أحياناً إلى درجة الإبداع الموازي للنص الأصلي – وربما تكون (رباعيات الخيام) المصوغة شعراً بواسطة "أحمد رامي" نقلا عن الأصل الفارسي أشهر الأمثلة في هذا الصدد على المستوى المصري – ومن ناحية أخرى تتسبب إحاطتهم الإدراكية بجماليات و رموز النص الأصلي في توليد مشاعر القلق والإخفاق أحياناً، ليقينهم باستحالة المطابقة التامة بينه وبين النص المترجَم، الأمر الذي يعمق من وعيهم الحاد بمسألة اتساع الصياغة النصية لتقبُل عناصر شتى، قد تصل إلى درجة التباين من الأساليب والتراكيب، وهو لا شك أحد تجليات (تداخل الأجناس)، وإن يكن على المستوى الإدراكي.

السمعي والنصي والبصري في تناوله لسير الفنانين:
إذا كان النص الأدبي في سيرورته التاريخية قد تقلب عبر حقب ثلاث هي: (الشفاهية) و(التدوينية) و(التفاعلية)؛ والتي تمثلت أولاهن في التداول الشفاهي والسمعي للنص الأدبي، اعتماداً على حفظه بالذاكرة، بينما تمثلت وسطاهن في تداول النص وحفظه تدويناً ونسخاً و طباعة واعتماد المخطوطة والكتاب ومشتقات الوسائط المادية الصالح للتدوين والنقش كحوامل وحوافظ للنص، وصولا إلى ثالثتهن – التفاعلية – التي تجلى النص الأدبي خلالها عبر الكيان الرقمي للحاسب الإلكتروني بإمكاناته البصرية والسمعية والنصية اللانهائية، فإن حضوراً موازياً للسمات السمعية والنصية والبصرية يمكن استشعاره بوضوح في نصوص "نعيم عطية"، ومصنفاته التي تناول من خلالها سير حياة عدد من الفنانين التشكيليين ذوي الشأن في تاريخ الفن العالمي(14)، والتي نهج في صياغتها نهجاً شديد الخصوصية مزج خلاله بين أجناس المقال الأدبي وأدب تراجم الشخصيات، أو ما يعرف بأدب (السيرة الغيرية/بيوجرافي)(15) وقالب الحوار المسرحي للخروج بنص مغاير وكاسر للمألوف في هذا الصدد.
هذا، وسوف يعتمد البحث هنا بالدرجة الأولى على كتابه (خمسة رسامين كبار) الذي ألفه عام 1968 والذي يعتبره الباحث نموذجا قياسياً في هذا الصدد؛ نظراً لوضوح تداخل الأجناس السابق ذكرها في بنائه السياقي، مع وجوب الإشارة لتطابق منهاجه الصياغي في هذا الكتاب مع كتاب آخر تالٍ له زمنياً هو كتاب (دنيا هذا الفنان) الصادر عام 1988، إي بعد مرور عشرين عاماً على صدور الكتاب الأول؛ مما يرسخ لفكرة استمرار ظاهرة (تداخل الأجناس) في الخطاب النقدي لديه. وقبل تناول تقنية التداخل الأجناسي لدى "نعيم عطية" في النموذج المذكور يود الباحث أن يلفت النظر إلى ملحوظة غاية في الأهمية – وهي التي تكررت أيضاً في كتابه التالي زمنيا (دنيا هذا الفنان) – وهي الملحوظة المتعلقة باختياره لشخوص الفنانين الخمسة الواردين في الكتاب؛ فباستعراضهم يتبين جمعه لكل من: "بيتر برويجل" البلجيكي (1525 – 1569)، و"أونوريه دومييه" الفرنسي (1808 – 1879)، و"هنري دي تولوز لوتريك" الفرنسي (1864 – 1901)، إلى جوار "إدفار مونك" النرويجي (1863 – 1944)، و"باول كلي" سويسري الأصل والألماني الجنسية (1879 – 1940)، فالملحوظة هنا لا تتعلق فقط باختلاف جنسيات الفنانين المذكورين، ولا بالوقوف الظاهري عند التفاوت الزمني بين اثنين منهم – "برويجل" و"دومييه" – والباقين، وإنما تتعلق بالأساس بمسألة التفاوت الأسلوبي، والفروق المذهبية التي كان كل منهم يصدُر في إبداعه عن مقولاتها ووفقاً لشروطاتها الجمالية والفلسفية الخاصة، وهو ما يظهر بجلاء حين نتأمل أسلوب "برويجل" الساخر بنهجه القروي البسيط، الذي سبق و أن تشبع بفلسفة سلفه "هيرونيموس بوش" (1450 – 1516) ذات الحس السوداوي، المُعلن دوماً إدانته لخطايا البشر، مُبرزاً حماقاتهم، مُقارنةً بأسلوب "دومييه" النقدي اللاذع، والذي استطاعت عبقريته أن تزاوج ما بين مقولات النهج الرومانتيكي وضرورات الخطاب السياسي المُعارض. ثم تتأكد الملحوظة حين يتلوهما في الترتيب "لوتريك" بانطباعيته المصبوغة بروحه الانفعالية المأزومة، والرازحة تحت نير إعاقته الجسدية، ثم "مونش" بتعبيريته العصابية النابعة من تكوينه النفسي والعقلي و الاجتماعي شديد الخصوصية، وأخيرا "كلي" برصانته البنائية وثقله الفلسفي الذي كفلته موسوعيته، التي رسخت لمكانته في النصف الأول من القرن الماضي. وهي ذاتها الملحوظة التي أكد "نعيم عطية" بتكرارها في كتابه (دنيا هذا الفنان) أنه يتناول هذا المنحى من الصياغة النصية، عامداً إلى تنويع اختياراته بشكل قصدي يتوخى التنوع في أساليب الفنانين؛ وذلك حين يجمع بين كل من "رمبرانت" الهولندي (1606 – 1669)، و"كوربيه" الفرنسي (1819 – 1877)، و"ديجا" الفرنسي (1834 – 1917)، و"أوروزكو" المكسيكي (1883 – 1949)، و"دالي" الأسباني (1904 – 1989)، بحقبهم الزمنية المتفاوتة، وأساليبهم المترجِمة عن مناهج "الباروك" و "الواقعية"، و"الانطباعية"، و"الواقعية الاشتراكية"، و"السريالية" على الترتيب. فهو نهج قصدي في الاختيار يفصح عن سعة في الرؤية وانفتاح نقدي لا يعبأ بالحدود المنهجية الظاهرية، التي يتم بموجبها تصنيف أساليب ومدارس الفن، بقدر ما يعنيها في المقام الأول تقديم رؤى متجانسة من وجهة نظر صاحبها، تكفل لقارئ النص أن يخلُص إلى إحساس عام بالأهمية البالغة التي تلعبها كل شخصية من شخصيات هؤلاء الفنانين، بوصفها حلقة تطورية مفصلية في تاريخ الفن، وكذا بعمق التجربة الحياتية التي عاشها كل منهم، وثراء نموذجه النفسي الكامن خلف ظواهر إبداعه. ثم تأتي ملحوظة أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها؛ تلك التي تتعلق بتسمية الكتاب (خمسة رسامين كبار)، فاختياره هنا لكلمة (رسامين) كبديل لفظي عن (فنانين) – كلفظ أشمل – أو (مصورين) – من منطلق تخصصهم في الشأن التصويري – تطرح دلالة هامة؛ فبرغم تنوع نتاج كل من هؤلاء الفنانين في الوسائط الأخرى – "برويجل" في التصوير و الحفر، و"دومييه" في الليثوغراف والنحت، و"لوتريك" في التصوير والليثوغراف، و"مونش" في الحفر والتصوير، و"كلي" في التصوير والحفر فضلاً عن جهوده التنظيرية – إلا أن تحديد "نعيم عطية" لجماليات الرسم كعلامة دالة ضمن عنوان الكتاب يكشف عن نظرة ثاقبة؛ حيث يشترك الخمسة فعلاً في سيادة العنصر الخطي كأساس قِيَمي لجماليات الأعمال لدى كل منهم، كما يشتركون في بروز قيمة المهارة الأدائية في صياغة الأعمال، على نحو تبرز معه الجماليات البصرية اللالونية – فضلاً عن براعتهم كملونين – و هي القيمة التي اقترح لها الدكتور "ثروت عكاشة" مصطلح (الرَسامة) في بعض مؤلفاته(16). ويرى الباحث أن ذلك الاختيار اللفظي يعكس – إلى جانب النظرة النقدية الثاقبة لـ"عطية"، والتي قيضت له استخلاص العامل المشترك لدى الفنانين المذكورين – مقدرة صياغية كفلت للنص ككل أن يتمتع بصفة الوحدة العضوية؛ فمن المسلم به أن عنوان النص يلعب دوراً لا يستهان به في تشكيل الموقف المبدئي للقارئ حيال هذا النص قبل اشتباكه معه في جدلية القراءة، وبذلك يكون "عطية" قد أفلح عن طريق هذه الإيمائة العنوانية البسيطة في الإيعاز للقارئ بالمشترك العام بين خمسة من الفنانين المنتمين إلى حقب وجنسيات ومذاهب متباينة.
وعند تناول كتاب (خمسة رسامين كبار) بشيء من التأمل لطريقة الصياغة النصية يتبين أنه يبدأ بمقدمة قصيرة، تعرض فيها لظروف اقتحامه لمجال النقد التشكيلي، يليها ثبت بالمراجع التي استقى منها مادة الكتاب، ثم النص الأساسي للكتاب، والذي اعتمد له صياغة فريدة، تمثلت في إيراد نبذة تعريفية عامة عن أهم المعلومات المتعلقة بالفنان، يليها نص إبداعي يمكن إدراجه في قالب النص المسرحي، يسبقه عادة تعريف بالشخصيات – فيما عدا "برويجل" – خاتما القوالب الخمسة بتضمين مجموعة من الصور التي تبين جانباً من إبداع كل منهم.
وهنا قد تسهم عبارة الإهداء الواردة في بداية الكتاب في إلقاء الضوء على سبب صياغة النص وفق تقنية (تداخل الأجناس)؛ حيث نقرأ: "إلى عشاق الفنون.. أصدقائي في البرنامج الثاني بإذاعة القاهرة..."(17)، وهي صلة انعقدت بينه وبين الوسيط الإذاعي في تلك الفترة عندما أسهم في الإعداد والكتابة لبرامج الفنون للإذاعة والتليفزيون، وكأن تجربته مع الإمكانات السمعية للوسيط الإذاعي كانت ماثلة في ذهنه حين اختار أن يفرغ صياغته للنص في قالب الحوار المسرحي، وهي صيغة صالحة دون شك للاستفادة منها فيما بعد في إبداع قطع تمثيلية، سواء بالإذاعة أو التليفزيون أو المسرح، وبذلك يتكرس حضور الوسيط الأول (السمعي) ضمن نص الكتاب في صياغته متداخلة الأجناس.
وحين نتطرق إلى الوسيط الثاني (النصي) في صياغة "نعيم عطية" للكتاب المذكور، فلابد وأن يتم الالتفات إلى مسألة من الأهمية بمكان؛ هي مسألة حدود تصرف المبدع للنص فيما يتعلق بسيرة الشخصية، التي يتولى إفراغها في قوالب غير جامدة لا تتشبث بثوابت وقواعد أدب تراجم الشخصيات أو السيرة الغَيرية المشار إليها قبلا، وهي التي وضح الناقد المغربي "صدوق نور الدين" اشتباكاتها بقوله: "وقد تتمظهر الترجمة الذاتية في الصورة التي تأتي عليها السيرة الذاتية أو (الرواية)، لولا أن مهمة الإنجاز الإبداعي يتفرد بها شخص لا علاقة له بهذه الحياة. إن الترجمة الذاتية هي قصة حياة، أقول إنها السيرة الغيرية لا الذاتية، السيرة التي تختار من ينجز مسؤولية تدوينها، سواء بصدد شخص لا يزال على قيد الحياة، أو من آل إلى الانتهاء واستمدت تفاصيل حياته من كتبه، ومما روي عنه وتدوول شفويا في حقه، وهو ما نلفيه في (معجم الأدباء) مثلا، أو فيما كتبه "عباس محمود العقاد" بخصوص (العبقريات)"(18). فكيف تعامل "نعيم عطية" مع المواد العلمية الخاصة بسير هؤلاء الفنانين، التي سبق وأن استقاها من مصادر بلغات شتى؟ وما هي حدود تخطيه أو التزامه لمقتضيات التأريخ الحرفي وفقاً لضرورات قالبه الحواري المسرحي في وسيطه (النصي)؟
يتكفل هو نفسه بمهمة الشرح والتوضيح حين يقول في المقدمة: "وإذ أسائل نفسي عن حدود دوري كوسيط بين هذه الرؤى وبين قارئي، لا أجد أنسب من دور المخرج، فأنا أحرك شخوصي، وأنطقهم بالكلام، وأعد ديكوراً مناسباً، وأوزع الأضواء، وأتحكم في الإيقاع، و أقدم للقارئ في النهاية حياة هؤلاء المصورين على الورق. وأنا كالمخرج لا أغير في النص، ولا سلطان لي على الواقع إلا بالتوجيه. كل ما لي هو أن أستخدم الكلمة، وهي وسيلتي الوحيدة، في عرض النص الدرامي الذي كتبه هؤلاء الفنانين الشجعان بدمائهم وأنفاسهم و أعصابهم طوال حياتهم الحافلة"(19).
ودون تكرار لما سبق، من خلال عبارته الشارحة للجوانب النصية في صياغته متداخلة الأجناس، يتبين بجلاء إلمامه بالوسائط المتباينة التي ينبغي إشراكها في مثل هذه النصوص – بصرية وسمعية ونصية وإيقاعية – وتحديده لدور المخرج ليكون مكافئاً لدور مبدع النص متداخل الأجناس، للتعبير عن خصوصية العملية التوليفية لدى كل منهما.
أما العامل (البصري) فبرغم تأثره بظروف الطباعة أحادية اللون، التي كانت سائدة في فترة طباعة الكتاب – 1968 – مما أهدر قيمة العامل اللوني للأعمال التصويرية الواردة في الصور، إلا أنه أسهم من جهة أخرى في تأكيد قيمة العنصر الخطي، العنصر الرئيسي في فن الرسم الذي سبق وأن أعلاه كعنوان لإبداعات هؤلاء الفنانين.
غير أن تجميع الصور في نهاية الكتاب قد تسبب على نحو آخر في الانتقاص من قيمة الوحدة العضوية، التي تتطلبها صياغة مثل هذا النوع من النصوص (متداخلة الأجناس)، والتي تستدعي إشراكاً واستحضاراً للصورة ضمن بنية النص، وتبادلها إيقاعياً مع النص المكتوب.

خاتمة:
إن فرادة الصياغة اللغوية في كتابات "نعيم عطية"، ذات الصلة بالشأن التشكيلي، تطرح مثالاً ساطعاً لقدرة النص النقدي على التجلي في قوالب غير اعتيادية، يصح اعتباره معها ضرباً من ضروب الإبداع الفني المستقل، بصرف النظر عن محتواها المعرفي المتعلق بالإبداع البصري الموازي، الذي استدعى صياغة ذلك النص النقدي لتلبية المقاصد النقدية المتعارف عليها.
ونصوص "نعيم عطية"، وإن كانت سابقة زمنياً لمقولات (تداخل الأجناس) الحديثة نسبياً، فإنها تتمتع بقسط غير منكور من سمات ،النصوص متداخلة الأجناس، مع الأخذ في الاعتبار الفارق الأساسي، المتمثل في عدم اعتماده على الكمبيوتر كوسيط لصياغة النص كما عليه حال مبدعي نصوص الأدب الرقمي والتفاعلي.
وعلى كافة المستويات، لا نملك سوى الاحتفاء ب"نعيم عطية"، تسليماً بمكانته كقامة موسوعية، نجحت في فرض نسقها الخاص و ٍوضع بصمتها غير المنكورة على وجه المشهد الثقافي العربي بعامّة.
التوصيات:
يوصي الباحث بأهمية الالتفات لضرورة تصدي عدد من الباحثين، من المتخصصين في الآداب والفنون ونظرية النقد، لمهمة جمع و تبويب مجموعة المقالات المتناثرة في الصحف والمجلات العربية ل"نعيم عطية"، لتصنيفها بيبلوجرافياً، وتخصيص دراسات موازية لها، وذلك لما تمثله من ثروة بحثية، جديرة برسم صورة مكثفة لحقبة كاملة من الثقافة المصرية في شتى المجالات.
د/ ياسر منجي

الهوامش و الإحالات:
(1) في هذا السياق أود أن أشير إلى آخر المستجدات التي باتت تشغل الساحة النقدية حديثا في مجال تناول ضرب من ضروب النصوص المعاصرة؛ ألا وهي النصوص التي تُعرف حاليا باسم (النصوص التفاعلية)، وهي التي تتم كتابتها و صياغتها من خلال جهاز الحاسب، لكي يتم طرحها من خلاله أيضا على المتلقي، سواء اتصل بشبكة الإنترنت أم لم يتصل – باستخدام وسائط أخرى كالأقراص المدمجة مثلا – والتي يتحقق فيها شرط تداخل عدد من الوسائط والأجناس الأخرى، كالصور الثابتة والمتحركة والأصوات والموسيقى... الخ، والتي يمكن للمتلقي أن يتفاعل معها عن طريق الضغط والنقر على مواضع معينة، تُحيله إلى تنويعات شتى من النصوص والإمكانيات الأخرى. وفي هذا الصدد استقر نقاد الأدب على أن التجربة الأولى التي دشنت لمثل هذا النوع من النصوص عربيا في مجال الشعر كانت للشاعر العراقي "مشتاق عباس معن":
http://www.iraqnla.org/opac/fullrecr.php?nid=311201&hl=ara
أما في مجال الرواية التفاعلية العربية فقد استقر الرأي على اعتبار رواية "صقيع" للكاتب "محمد سناجلة" الرواية الأولى في هذا السياق، وهي التي يمكن الاطلاع عليها من خلال الرابط التالي:
http://www.arab-ewriters.com/?action=ShowWriter&&id=243
وانظر أيضا للباحث مقاله عن تداخل الأنواع الفنية من خلال مقال (الفنون في عصر الصورة الإلكترونية) على الرابط التالي:
http://www.arab-ewriters.com/?action=ShowItem&&id=3701
(2) لمزيد من التوسع بخصوص تداخل الأجناس يمكن الرجوع إلى "رينيه ويلك"؛ في كتابه (نظرية الأدب) ترجمة محي الدين صبحي – مطبعة خالد الطرابيشي 1972، وكذلك "صالح هويدي"؛ في كتابه (النقد الأدبي الحديث، قضاياه و مناهجه) منشورات جامعة السابع من إبريل، ليبيا 1998.
(3) وفي هذا الصدد ينبغي الالتفات إلى ريادة "نجيب محفوظ" في روايته (الحرافيش)؛ التي حوت ضمن بنيتها السردية مجموعات شعرية فارسية مكتوبة بحروف عربية، تم توظيفها على نحو بارع، كفل إضفاء البعد الغيبي على عالم شخوص الرواية.
وقد توسع "جمعة اللامي" في هذا المنحى، إلى حد أن الشطر الأعظم من روايته (مجنون زينب) قد صيغ صياغة شعرية.
ويبدو أن هذا الالتفات من قِبَل النظرية لمثل هذه النصوص قد ولد إشكالية على مستوى التصنيف، حتى لنصوص قديمة نسبياً؛ ومن ذلك إقرار عدد من النقاد بصعوبة تصنيف كتاب (المعذبون في الأرض) للدكتور "طه حسين".
(4) كأمثلة على ذلك: قصيدة (الأرض الخراب) للشاعر "ت. إس. إليوت"، قصائد "بدر شاكر السياب" خلال مرضه الأخير، قصيدة (نشيد أوروك) ل"عدنان الصائغ" وأيضا معظم أشعار "سعدي يوسف".
كما كانت للظاهرة المذكورة أمثلة قوية على مستوى الشعر العربي القديم؛ مثلا قصة "دارة جلجل" عند "امرئ القيس" قصة "الثور" في شعر "أبي ذؤيب الهذلي"، وقصة "الذئب" في شعر "البحتري" و كذلك قصة "الأسد" في شعر كل من "البحتري" و"المتنبي"، أنظر "عبد الله الغذامي" في كتابه (المشاكلة و الاختلاف)، المركز الثقافي العربي 1994.
(5) انظر: نعيم عطية، ديوان كفافيس شاعر الإسكندرية، دار سعاد الصباح 1993.
(6) هو الشقيق الأصغر للزعيم المصري "سعد زغلول"، وكان "أحمد فتحي" من رجال القانون والقضاء، ورواد الترجمة في مصر، بجانب اهتماماته السياسية والتعليمية والصحفية.
كان اسمه في الأصل "فتح الله صبري" شارك في الثورة العرابية وكان من خطباء هذه الثورة، وعندما فشلت واحتل الإنجليز مصر رفت من المدرسة بقرار من وزير المعارف، فقام بتغيير اسمه والتحق بمدرسة الألسن عام 1883م، وسافر في تلك السنة لدراسة القانون في أوربا، وعاد في سنة 1887م حيث عين في القضاء وتدرج في مناصبه حتى أصبح رئيسا لمحكمة مصر.
ربطته علاقة قوية باللورد "كرومر" -المعتمد السامي البريطاني في مصر- وشارك كقاض في محكمة دنشواي سنة 1906م التي قضت بإعدام عدد من الفلاحين أمام أهليهم؛ وهو ما هز الوجدان الشعبي المصري، وكان هو الذي صاغ حيثيات الحكم، وكان لهذه الحادثة المؤلمة أثرها القاتم على تاريخه وسيرته وأعماله، وإذا ذكر اسمه اقترن بما ارتكبه في دنشواي.
لم تكن تربطه علاقة جيدة بأخيه سعد، ترجع إلى عوامل الغيرة والتنافس، وكان يرى أن أخاه سبب في الحيلولة دون ترقيه إلى الوزارة، وكان يعتقد أنه يتمتع بمواهب وقدرات تفوق سعدا، وقد أورد سعد في مذكراته جانبا من شخصية أخيه.
كان أحمد فتحي زغلول من رواد حركة الترجمة في مصر، وكان يرى أن حركة الترجمة تسبق حركة التأليف في نهضة الأمة المصرية، وكان يتقن اللغتين الإنجليزية والفرنسية بجانب امتلاكه ناصية اللغة العربية.
ومن أعماله الكبرى في الترجمة "سر تقدم الإنجليز السكسون" لادمون ديمولان، و"سر تطور الأمم "لجوستاف لوبون، و"روح الاجتماع" لجوستاف لوبون، و"أصول الشرائع" لجيرمي نبتام، إضافة إلى تأليفه لبعض الكتب مثل "المحاماة" و"شرح القانون المدني" و"الآثار الفتحية".
ساهم مع أحمد لطفي السيد في إنشاء جريدة "الجريدة"، وكان عضوا مؤسسا في "الجمعية الخيرية الإسلامية، وساهم في وضع نظم المعاهد الدينية الأزهرية.
(7) وصفه "العقاد" بقوله: "كان ذا ذلاقة لسان لا تطيق نفسها ولا تريح صاحبها"، ووصفه معاصروه بأنه كان ذا مقدرة بلاغية استثنائية مكنته من التنقل كيفما شاء بين فنون الفصحى والعامية على نحو يجعل من يستمع إليه مشدوهاً ومأخوذاً ببلاغته الآسرة.
وبالرغم من حب المصريين له إلا أنه ارتكب ذنباً لا يغتفر حين وقف في جانب الاحتلال البريطاني ممثلا للادعاء ضد أهالي "دنشواي" مما تسبب في صدور الحكم الشهير بإعدام وجلد شهداء الحادث – الغريب أن إصدار الحكم جاء من قبل "أحمد فتحي زغلول" – مما لطخ تاريخه بالعار حتى وفاته، ولهذا السبب قال فيه الشيخ "عبد العزيز البشري" قولته المشهورة: "... عاش مدى عمره يحبه ناس أشد الحب ويبغضه ناس أشد البغض، إلا أن هؤلاء وهؤلاء لا يسعهم جميعاً إلا التسليم بأنه رجل عبقري"، أنظر (مذكرات إبراهيم الهلباوي: تاريخ حياته) تحقيق عصام ضياء الدين، تقديم عبد العظيم رمضان.
(8) صادر عن دار المعارف بالقاهرة عام 1980.
(9) انظر السيرة الذاتية له على موقع قطاع الفنون التشكيلية من خلال الرابط التالي:
http://www.fineart.gov.eg/Arb/CV/print_my_cv.asp?IDS=2084
(10) صادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2005.
(11) المرجع السابق ص 3.
(12) نفس الموضع.
(13) المرجع السابق ص 3، 4.
(14) أهمها كتبه الثلاثة: (من رواد الفن الحديث) الصادر عن الدار القومية للطباعة والنشر عام 1965 و(خمسة رسامين كبار) الصادر عن دار الكاتب العربي للطباعة والنشر عام 1968 و(دنيا هذا الفنان) الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1988
(15) هي السِيَر التي يصوغها الكاتب عن آخرين غيره، والذين يكونون عادة من الشخصيات العامة والتاريخية وهي بذلك تختلف عن أدب (السيرة الذاتية/ أوتوبيوجرافي) وأدب (سِيَر القديسين/هاجيوجرافي) المعروف في الغرب، الباحث.
(16) راجع ثروت عكاشة، فنون عصر النهضة، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
(17) نعيم عطية، خمسة رسامين كبار، مرجع سابق، ص2.
(18) صدوق نور الدين، سير المفكرين الذاتية، المركز الثقافي العربي 2000، ص 15.
(19) نعيم عطية، خمسة رسامين كبارن مرجع سابق، ص 6،5.
قائمة المراجع:
1- ثروت عكاشة، فنون عصر النهضة، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
2- رينيه ويلك، نظرية الأدب، ترجمة محي الدين صبحي، مطبعة خالد الطرابيشي 1972.
3- صالح هويدي، النقد الأدبي الحديث، قضاياه ومناهجه، منشورات جامعة السابع من إبريل، ليبيا 1998.
4- صدوق نور الدين، سير المفكرين الذاتية، المركز الثقافي العربي 2000
5- عبد الله الغذامي، المشاكلة والاختلاف، المركز الثقافي العربي 1994.
6- مذكرات إبراهيم الهلباوي: تاريخ حياته، تحقيق عصام ضياء الدين، تقديم عبد العظيم رمضان.
7- نعيم عطية، ديوان كفافيس شاعر الإسكندرية، دار سعاد الصباح 1993.
8- نعيم عطية، نساء في المحاكم، دار المعارف، 1980.
9- نعيم عطية، مسرح العبث: مفهومه – جذوره – أعلامه، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2005.
10- نعيم عطية، خمسة رسامين كبار، دار الكاتب العربي للطباعة و النشر، 1968
11- نعيم عطية، دنيا هذا الفنان، الهيئة المصرية العامة للكتاب،1988.